فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
قال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: صفة المشرك بالنجس إنما كانت لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي كنجاسة الخمر، قال الحسن البصري: من صافح مشركًا فليتوضأ.
قال القاضي أبو محمد: فمن قال بسبب الجنابة أوجب الغسل على من يسلم من المشركين، ومن قال بالقول الآخر لم يوجب الغسل، والمذهب كله على القول بإيجاب الغسل إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب، وقرا أبو حيوة {نِجْس} بكسر النون وسكون الجيم، ونص الله تعالى في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام، فقاس مالك رحمه الله غيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36]، وقال الشافعي هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد، ومن حجته حديث ربط ثمامة بن أثال، وقال أبو حنيفة هي خاصة في عبدة الأوثان وفي المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى في المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد، وقال عطاء: وصف المسجد بالحرام ومنع القرب يقتضي منعهم من جميع الحرم.
قال القاضي أبو محمد: وقوة قوله: {فلا يقربوا} يقتضي أمر المسلمين بمنعهم، وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدًا لمسلم، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع، واختلف في أهل الكتاب، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك، وقوله: {بعد عامهم هذا} يريد بعد عام تسع من الهجر وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة، وأما قوله: {وإن خفتم عيلة} قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة والمعنى بارع بإن، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش؟ فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، قال الضحاك: ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة، بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون} [التوبة: 29] إلى قوله: {وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، والعيلة الفقر، يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، قال الشاعر: [أحيحة]
وما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود، عايلة وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل، وكالعاقبة والعافية، ويحتمل أن تكون نعتًا لمحذوف تقديره حالًا عائلة، وحكى الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}
قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} قال أبو عبيدة: معناه: قذر.
قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذَر: نجَسٌ.
وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نِجْسٌ، إلا وقبلها رِجْسٌ، فإذا أفردوها، قالوا: نَجَس.
وفي المراد بكونهم نجسًا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي، عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز.
وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ.
والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاسًا، قاله قتادة.
والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
قوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام} قال أهل التفسير: يريد: جميع الحرم {بعد عامهم هذا} وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقرئت {براءة}.
وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي.
واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضًا إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك.
وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد.
قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: {عايلة}.
قال سعيد بن جبير: لما نزلت: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} شقَّ على المسلمين، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت: {وإن خفتم عيلة} الآية.
قال الأخفش: العيلة: الفقر.
يقال: عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر.
وأعال إعالة فهو يُعيل: إذا صار صاحب عيال.
وقال أبو عبيدة: العَيْلة هاهنا: مصدر عالَ فلانٌ إذا افتقر، وأنشد:
وما يَدري الفقيرُ متى غِناه ** وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل

وللمفسرين في قوله: {وإنْ} قولان:
أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر.
والثاني: أنها بمعنى وإذْ، قاله عمرو بن فايد.
قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره.
وفي قوله: {فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة.
والثاني: أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك.
والثالث: أن أهل نجد، وجُرَشَ، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ، فأغناهم الله به، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {إن الله عليم} قال ابن عباس: {عليم} بما يصلحكم {حكيم} فيما حكم في المشركين. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
فيه سبع مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} ابتداء وخبر.
واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنّجس؛ فقال قَتادة ومَعْمر بن راشد وغيرهما: لأنه جُنُب؛ إذ غسله من الجنابة ليس بغسل.
وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه.
قال الحسن البصرِيّ من صافح مشركًا فليتوضأ.
والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم؛ إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله.
وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد.
وأسقطه الشافعيّ وقال: أحبّ إليّ أن يغتسل.
ونحوه لابن القاسم.
ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل؛ رواه عنه ابن وهب وابن أبي أوَيس.
وحديث ثُمامة وقيس بن عاصم يردّ هذه الأقوال.
رواهما أبو حاتم البستيّ في صحيح مسنده: وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بثُمامة يومًا فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلّى ركعتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حَسُن إسلامُ صاحبكم» وأخرجه مسلم بمعناه.
وفيه: أن ثمامة لما منّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل: وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسِدْر.
فإن كان إسلامه قُبيل احتلامه فغسله مستحب.
ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة.
هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب.
وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه، إذا اعتقد الإسلام بقلبه؛ وهو قول ضعِيف في النظر مخالف للأثر.
وذلك أن أحدًا لا يكون بالنيّة مسلمًا دون القول.
هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويَزْكُو بالعمل.
قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
الثانية قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} {فَلاَ يَقْرَبُوا} نهي؛ ولذلك حذفت منه النون.
{المسجِد الحرام} هذا اللفظ يطلق على جميع الحرَم، وهو مذهب عطاء؛ فإذًا يُحرم تمكين المشرك من دخول الحَرَم أجمع.
فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحِل ليسمع ما يقول.
ولو دخل مشرك الحَرَم مستورًا ومات نُبش قبره وأخرجت عظامه.
فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز.
وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومَخالِيفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كلّ من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين.
وكذلك قال الشافعيّ رحمه الله؛ غير أنه استثنى من ذلك اليمنَ.
ويُضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضَربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم.
ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل.
الثالثة واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال؛ فقال أهل المدينة: الآية عامّة في سائر المشركين وسائر المساجد.
وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله ونَزَع في كتابه بهذه الآية.
ويؤيّد ذلك قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36].
ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها.
وفي صحيح مسلم وغيره: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر» الحديث.
والكافر لا يخلو عن ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحلّ المسجد لحائض ولا لجُنُب» والكافر جُنُب.
وقال تعالى: {إنَّمَا المُشْركُونَ نَجَسٌ} فسمّاه الله تعالى نجسًا.